فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

النوع الرابع: من جملة الموحى قوله تعالى: {وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا (19)}
اعلم أن عبد الله هو النبي صلى الله عليه وسلم في قول الجميع، ثم قال الواحدي: إن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى، لأن الرسول لا يليق أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة وهذا غير بعيد، كما في قوله: {يوْمٍ يُحْشرُ المتقين إِلى الرحمن وفْدا} [مريم: 85] والأكثرون على أنه من جملة الموحى، إذ لو كان من كلام الجن لكان ما ليس من كلام الجن.
وفي خلل ما هو كلام الجن مختلا بعيدا عن سلامة النظم وفائدة هذا الاختلاف أن من جعله من جملة الموحى فتح الهمزة في أن، ومن جعله من كلام الجن كسرها، ونحن نفسر الآية على القولين، أما على قول من قال: إنه من جملة الموحى فالضمير في قوله: {كادُواْ} إلى من يعود؟ فيه ثلاثة أوجه أحدها: إلى الجن، ومعنى {قام... يدْعُوهُ} أي قام يعبده يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجن، فاستمعوا القراءة {كادُواْ يكُونُون عليْهِ لِبدا}، أي يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به قائما وراكعا، وساجدا وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا مالم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله والثاني: لما قدم رسول الله يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الأوثان، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه والثالث: وهو قول قتادة: لما قام عبد الله تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله، فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من عاداه، وأما على قول من قال: إنه من كلام الجن، فالوجهان أيضا عائدان فيه، وقوله: {لِبدا} فهو جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض وارتكم بعضه على بعض، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقا شديدا فقد لبدته، ومنه اشتقاق هذه اللبود التي تفرش ويقال: لبدة الأسد لما يتلبد من الشعر بين كتفيه، ومنه قول زهير:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ** له لبد أظفاره لم تقلم

وقرئ: {لِبدا} بضم اللام واللبدة في معنى اللبدة، وقرئ {لِبدا} جمع لابد كسُجِّد وساجد.
وقرئ أيضا: {لِبدا} بضم اللام والباء جمع لبود كصبر جمع صبور، فإن قيل: لم سمي محمدا بعبد الله، وما ذكره برسول الله أو نبي الله؟
قلنا: لأنه إن كان هذا الكلام من جملة الموحى، فاللائق بتواضع الرسول أن يذكر نفسه بالعبودية، وإن كان من كلام الجن كان المعنى أن عبد الله لما اشتغل بعبودية الله، فهؤلاء الكفار لم اجتمعوا ولم حاولوا منعه منه، مع أن ذلك هو الموافق لقانون العقل؟.
{قُلْ إِنّما أدْعُو ربِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا (20)}
قرأ العامة {قال} على الغيبة وقرأ عاصم وحمزة، {قُلْ} حتى يكون نظيرا لما بعده، وهو قوله: {قُلْ إِنّى لا أمْلِكُ} [الجن: 21] {قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى} [الجن: 22] قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا) فأنزل الله: {قُلْ إِنّما ادعوا ربّى} وهذا حجة لعاصم وحمزة، ومن قرأ {قال} حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك، أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنّما أدْعُو ربّى} فحكى الله ذلك عنه بقوله: {قال} أو يكون ذاك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم.
{قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا (21)}
إما أن يفسر الرشد بالنفع حتى يكون تقدير الكلام: لا أملك لكم غيا ولا رشدا، ويدل عليه قراءة أبي {غيا ولا رشدا}، ومعنى الكلام أن النافع والضار، والمرشد والمغوي هو الله، وإن أحدا من الخلق لا قدرة له عليه.
قوله تعالى: {قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى مِن الله أحد} قال مقاتل: إنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك، فقال الله له: {قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى مِن الله أحدٌ}.
ثم قال تعالى: {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا} أي ملجأ وحرزا، قال المبرد: {مُلْتحدا} مثل قولك منعرجا، والتحد معناه في اللغة مال، فالملتحد المدخل من الأرض مثل السرب الذاهب في الأرض.
قوله تعالى: {إِلاّ بلاغا مِّن الله ورسالاته} ذكروا في هذا الاستثناء وجوها أحدها: أنه استثناء من قوله: {لا أمْلِكُ} [الجن: 21] أي لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا بلاغا من الله، وقوله: {قُلْ إِنّى لن يُجِيرنِى} [الجن: 22] جملة معترضة وقعت في البين لتأكيد نفي الاستطاعة عنه وبيان عجزه على معنى: أنه تعالى إن أراد به سوءا لم يقدر أحد أن يجيره منه، وهذا قول الفراء.
وثانيها: وهو قول الزجاج: أنه نصب على البدل من قوله: {مُلْتحدا} [الجن: 22] والمعنى: ولن أجد من دونه ملجأ إلا بلاغا، أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به، وأقول هذا الاستثناء منقطع لأنه تعالى لما لم يقل ولن أجد ملتحدا بل قال: {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا}، والبلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله: {مِن دُونِهِ مُلْتحدا} لأن البلاغ من الله لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه ثالثها: قال بعضهم: (إلا) معناه إن (لا) ومعناه: إن لا أبلغ بلاغا كقولك: (إلا) قياما فقعودا، والمعنى: إن لا أبلغ لم أجد ملتحدا، فإن قيل: المشهور أنه يقال بلغ عنه قال عليه السلام: «بلغوا عني، بلغوا عني» فلم قال ههنا: {بلاغا مِّن الله}؟ قلنا: (من) ليست (بصفة للتبلغ) إنما هي بمنزلة (من) في قوله: {براءةٌ مّن الله} [التوبة: 1] بمعنى بلاغا كائنا من الله.
أما قوله تعالى: {ورسالاته} فهو عطف على {بلاغا} كأنه قال: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، والمعنى إلا أن أبلغ عن الله فأقول: قال الله كذا ناسبا القول إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان.
قوله تعالى: {ومن يعْصِ الله ورسُولهُ فإِنّ لهُ نار جهنّم} قال الواحدي إن مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ولذلك حمل سيبويه قوله: {ومنْ عاد فينْتقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] {ومن كفر فأُمتّعُهُ} [البقرة: 126] {فمن يُؤْمِن بِربّهِ فلا يخافُ} [الجن: 13] على أن المبتدأ فيها مضمر وقال صاحب (الكشاف) وقرئ: {فأنّ لهُ نار جهنّم} على تقدير فجزاؤه أن له نار جهنم كقولك: {فأنّ للّهِ خُمُسهُ} [الأنفال: 41] أي فحكمه أن لله خمسه.
ثم قال تعالى: {خالدين فِيها أبدا} حملا على معنى الجمع في (من) وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى:
استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة مخلدون في النار وأن هذا العموم يشملهم كشموله الكفار، قالوا: وهذا الوعيد مشروط بشرط أن لا يكون هناك توبة ولا طاعة أعظم منها، قالوا: وهذا العموم أقوى في الدلالة على هذا المطلوب من سائر العمومات لأن سائر العمومات ما جاء فيها قوله: {أبدا} فالمخالف يحمل الخلود على المكث الطويل، أما هاهنا (فقد) جاء لفظ الأبد فيكون ذلك صريحا في إسقاط الاحتمال الذي ذكره المخالف والجواب: أنا بينا في سورة البقرة وجوه الأجوبة على التمسك بهذه العمومات، ونزيد هاهنا وجوها أحدها: أن تخصيص العموم بالواقعة التي لأجلها ورد ذلك العموم عرف مشهور، فإن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار ساعة فقال الزوج إن خرجت فأنت طالق يفيد ذلك اليمين بتلك الساعة المعينة حتى إنها لو خرجت في يوم آخر لم تطلق، فههنا أجرى الحديث في التبليغ عن الله تعالى، ثم قال: {ومن يعْصِ الله ورسُولهُ} يعني جبريل: {فإِنّ لهُ نار جهنّم} أي من يعص الله في تبليغ رسالاته وأداء وحيه فإن له نار جهنم، وإذا كان ما ذكرنا محتملا سقط وجه الاستدلال الوجه الثاني: وهو أن هذا الوعيد لابد وأن يتناول هذه الصورة لأن من القبيح أن يذكر عقيب هذه الواقعة حكما لا تعلق له بها، فيكون هذا الوعيد وعيدا على ترك التبليغ من الله، ولا شك أن ترك التبليغ من الله أعظم الذنوب، والعقوبة المترتبة على أعظم الذنوب، لا يجوز أن تكون مرتبة على جميع الذنوب، لأن الذنوب المتفاوتة في الصغر والكبر لا يجوز أن تكون متساوية في العقوبة، وإذا ثبت أن هذه العقوبة على هذا الذنب، وثبت أن ما كان عقوبة على هذا الذنب لا يجوز أن يكون عقوبة على سائر الذنوب، علمنا أن هذا الحكم مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى سائر الذنوب الوجه الثالث: وهو أنه تعالى ذكر عمومات الوعيد في سائر آيات القرآن غير مقيدة بقيد الأبد.
وذكرها هاهنا مقيدة بقيد الأبد، فلابد في هذا التخصيص من سبب، ولا سبب إلا أن هذا الذنب أعظم الذنوب، وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى جميع الذنوب، وإذا ثبت أن هذا الوعيد مختص بفاعل هذا الذنب، صارت الآية دالة على أن حال سائر المذنبين بخلاف ذلك لأن قوله: {فإِنّ لهُ نار جهنّم خالدين فِيها أبدا} معناه أن هذه الحالة له لا لغيره، وهذا كقوله: {لكُمْ دِينكُمْ} أي لكم لا لغيركم.
وإذا ثبت أن لهم هذه الحالة لا لغيرهم، وجب في سائر المذنبين أن لا يكون لهم نار جهنم على سبيل التأبيد، فظهر أن هذه الآية حجة لنا عليهم.
وعلى تمسكهم بالآية سؤال آخر، وهو أن قوله: {ومن يعْصِ الله ورسُولهُ} إنما يتناول من عصى الله ورسوله بجميع أنواع المعاصي، وذلك هو الكافر ونحن نقول: بأن الكافر يبقى في النار مؤبدا، وإنما قلنا إن قوله: {ومن يعْصِ الله ورسُولهُ} إنما يتناول من عصى الله بجميع أنواع المعاصي لأن قوله: {ومن يعْصِ الله} يصح استثناء جميع أنواع المعاصي عنه، مثل أن يقال ومن يعص الله إلا في الكفر وإلا في الزنا، وإلا في شرب الخمر، ومن مذهب القائلين بالوعيد أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا تحت اللفظ وإذا كان كذلك، وجب أن يكون قوله: {ومن يعْصِ الله} متناولا لمن أتى بكل المعاصي، والذي يكون كذلك هو الكافر، فالآية مختصة بالكافر على هذا التقدير، فسقط وجه الاستدلال بها.
فإن قيل: كون الإنسان الواحد آتيا لجميع أنواع المعاصي محال، لأن من المحال أن يكون قائلا بالتجسم، وأن يكون مع ذلك قائلا بالتعطيل، وإذا كان ذلك محالا فحمل الآية عليه غير جائز قلنا: تخصيص العام بدليل العقل جائز، فقولنا: {ومن يعْصِ الله} يفيد كونه آتيا بجميع أنواع المعاصي، ترك العمل به في القدر الذي امتنع عقلا حصوله فيبقى متناولا للآتي بجميع الأشياء التي يمكن الجمع بينها، ومن المعلوم أن الجمع بين الكفر وغيره ممكن فتكون الآية مختصة به.
المسألة الثانية:
تمسك القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية فقالوا: تارك المأمور به عاص لقوله تعالى: {أفعصيْت أمْرِى} [طه: 93]، {لاّ يعْصُون الله ما أمرهُمْ} [التحريم: 6]، {لا أعْصِى لك أمْرا} [الكهف: 69] والعاصي مستحق للعقاب لقوله: {ومن يعْصِ الله ورسُولهُ فإِنّ لهُ نار جهنّم خالدين فِيها أبدا}.
{حتّى إِذا رأوْا ما يُوعدُون فسيعْلمُون منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا (24)}
فإن قيل: ما الشيء الذي جعل ما بعد حتى غاية له؟ قلنا: فيه وجهان الأول: أنه متعلق بقوله: {يكُونُون عليْهِ لِبدا} [الجن: 19] والتقدير أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون (عدده) حتى إذا رأوا ما يوعدون من يوم بدر وإظهار الله له عليهم أو من يوم القيامة، فسيعلمون أيهم أضعف ناصرا وأقل عددا، الثاني: أنه متعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده كأنه قيل: هؤلاء لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا كان كذا كان كذا، واعلم أن نظير هذه الآية قوله في مريم: {حتى إِذا رأوْاْ ما يُوعدُون إِمّا العذاب وإِمّا الساعة} [مريم: 75] واعلم أن الكافر لا ناصر له ولا شفيع يوم القيامة على ما قال: {ما للظالمين مِنْ حمِيمٍ ولا شفِيعٍ يُطاعُ} [غافر: 18] {ولا يشْفعُون إِلاّ لِمنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] ويفر كل أحد منهم من صاحبه على ما قال: {يوْم يفِرُّ المرء مِنْ أخِيهِ} [عبس: 34] إلى آخره: {يوْم تروْنها تذْهلُ كُلُّ مُرْضِعةٍ عمّا أرْضعتْ} [الحج: 2] وأما المؤمنون فلهم العزة والكرامة والكثرة قال تعالى: {والملائكة يدْخُلُون عليْهِمْ مّن كُلّ بابٍ سلام عليْكُمُ} [الرعد: 23، 24] والملك القدوس يسلم عليهم {سلامٌ قولا مّن رّبّ رّحِيمٍ} فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين أو في جانب الكفار. اهـ.